مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان

Organization for Human Rights Meezaan

ملاحظات قانونيّة في ظلّ الحرب الأخيرة

مقالات قانونية

المحامي محمود خلدون جبارين

هناك من الناس من يظن ويعتقد أن القوانين والسياسة التي تنتهجها الشرطة ضد المواطنين العرب في الشهر الأخير هي وليدة حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد ونتيجة اعلان الحكومة الإسرائيلية الحرب على غزة وفق قانون أساسي الحكومة لكنهم بذلك جانبوا الصواب.

أربعة أيام فقط بعد الاعلان عن اقامة الدولة، تم اعلان حالة الطوارئ في البلاد. مع مرور الزمن تم تضمين هذه الصلاحية في قانون اساس الحكومة، وحتى يومنا هذا يتم تمديد حالة الطوارئ في البلاد بشكل ثابت، مما يعطي الحكومة صلاحيات استثنائية.

ما تغير في الآونة الأخيرة هي فقط الظروف، فبعد الأحداث الأخيرة، دخلت الدولة في حالة استنفار قصوى وتغيرت الظروف من ظروف عادية لظروف حرب. من المعلوم أن السياسة العامة في الدولة هي وليدة الظروف التي تمر بها البلاد، بمعني أن الدولة في ظروف معينة من الممكن أن تتغاضى عن أعمال في عرف القانون ممنوعة لأن ظروف الدولة تحتمل مثل هذه الأفعال وعليه تتجنب صب مجهودها في مثل هذه الأفعال.

اما مع تغير الجو العام أو ظروف المنطقة، فقد تقرر الدولة محاربة مثل تلك الأفعال لأنها تحمل بتقديرها ضررًا كامنًا كبيرًا وعلى نفس المنهج تسير المحاكم وتصدر الأحكام.

بالمثال يتضح المقال: فمثلًا قبل الحرب الأخيرة كانت الشرطة تفرج عن عمال ضفة ضبطتهم في البلاد للمرة الأولى دونما تصريح، ومن يقدم منهم ضده لائحة اتهام يحكم عليه بأيام معدودات في السجن وأحيانا بعقوبة مستقبلية. لكن وبعد الحرب الأخيرة تم تشديد الأحكام في مثل هذه القضايا بحيث قررت المحاكم أن العقوبة يجب أن تتراوح من شهرين لسبعة شهور سجن فعلي. أضف إلى ذلك أن الشرطة أخذت تعتقل حتى عامل الضفة الذي يضبط للمرة الأولى دونما تصريح في البلاد وتحوله للنيابة لتقديم لائحة اتهام.

ماذا تغير؟ القانون لم يتغير، لكن الظروف تغيرت مما حذا بالسلطات تشديد سياساتها بخصوص تطبيق القانون والمحكمة شددت من عقوباتها، لأنه من وجهة نظر المؤسسات أصبحت هذه الظاهرة تشكل تهديدا للأمن. لم يقف الأمر عند ذلك، بل تجاوزه لإغلاق مصالح تجارية تشغل عمال ضفة دونما تصاريح.

ما نستنتجه مما ذكر أن تفعيل القانون ومستوى العقوبة هو وليد الظروف وليس فقط نص القانون.

مثال آخر: بعد حرب سنه 2014 بدأت النيابة بتقديم لوائح اتهام بموضوع التحريض على الفيسبوك الذي بدأ سيطه يلمع ويتنشر في تلك الفترة. استندت النيابة في ذلك إلى تقارير استخباراتية تشير بأن المنشورات على الفيسبوك تؤثر سلبًا على المشاهد بحيث تشجعه على القيام بأعمال تمس بالأمن والنظام العام مستندة في ذلك إلى اقتباس تحقيقات مع معتقلين أشاروا في أقوالهم الى أنهم تأثروا بما شاهدوه على منصات التواصل الاجتماعية. في البداية كانت العقوبات خفيفة، ولكن مع ازدياد انتشار وتأثير مواقع التواصل الاجتماعية زادت حدة الاحكام وضاقت المساحة المسموحة.

الشيء بالشيء يقرن، فقانون مكافحة الإرهاب هو قانون ساري المفعول من تاريخ إعلانه في سنة 2016. البند المركزي في القانون والذي تتمحور حوله أغلب الاعتقالات اليوم هو بند رقم 24 من ذلك القانون ولهذا البند بنود فرعية كثيره. مستوى العقوبة الأقصى المنصوص عليه في هذا القانون يتدرج من سنة، سنتين، ثلاث سنوات، خمس سنوات. حيث ينص القانون مثلًا على عقوبة أقصاها خمس سنوات سجن لمن ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحريضًا للقيام بأعمال إرهابيه أو يقوم بنشر مناشير داعمه لأعمال إرهابية في ظروف التي قد تؤدي بالآخرين للقيام بأعمال تمس أمن الدولة. بند أخف وطأة هو بند نشر شعارات أو تأييد لتنظيم محظور حيث تصل عقوبته لثلاث سنوات سجن.

في تاريخ 12.11.2023 تم إضافة بند جديد ساري المفعول لمدة سنتين قابلة للتمديد، يجرم بمخالفة عقوبتها القصوى سنة، لمن يثبت بحقه أنه يستهلك بشكل دوري مضامين حماس أو تنظيم داعش في ظروف تشير أنه يتماهى مع أحد هذه التنظيمات، شريطه أن يكون المحتوى الذي يشاهده أحد ثلاث: توثيق لأعمال إرهابيه ضد أمن الدولة، دعوة أو تحريض لمثل هذه الأفعال، امور داعمة لأعمال إرهابية.

منذ اندلاع الحرب الأخيرة، قدمت عشرات لوائح اتهام ضد مواطنين عرب قاموا بنشر تغريدات أو مناشير تشير بشكل مباشر أو مبطن إلى دعم تنظيم حماس المحظور، وكما تم تقديم لوائح اتهام ضد من أشاد بأحداث السابع من أكتوبر. اللوائح قدمت تحت مظلة بند 24 أعلاه. وهناك سياسة تشديد بهذا السياق، حتى إن وضع إشارة إعجاب على منشور محظور قد تؤدي بصاحبها غلى المساءلة والفصل من العمل، أو حتى رسالة على مجموعة واتساب عائلية قد تتسبب بمشاكل قانونية تصل إلى حد تقديم لائحة إتهام وفق مضمون الرسالة. إضافة إلى ذلك حتى المنشورات الضبابية أصبحت في دائرة المسائلة القانونية وإن لم تفض إلى لائحة إتهام.

وانتهجت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية سياسة مماثلة، حيث أصبح من يقوم بنشر أي صوره فيها دعم لغزة كشعب أو كأطفال يقع تحت طائلة المحاسبة، وقد يفقد أحدهم وظيفته أو مكانه كطالب جامعي بسبب وضعه لإشارة إعجاب (لايك) على منشور قد يفسر على محمل دعمه للإرهاب، وإن كان قد وضع إشارة الإعجاب ساهيًا وعن غير قصد فعليه تبرير ذلك ليبقى في منصبه.

أما بما يخص بحق التظاهر فقد تم تقليصه في هذه الظروف ومنعه، ومسوغات الشرطة في هذا المضمار هي عدم وجود قوات كافيه لديها لضبط النظام في المجتمع العربي لانشغال قواتها في حفظ الأمن العام في ظل الحرب المشتعلة وخصوصًا إن أي مظاهرة في المجتمع العربي قد تتحول لمظاهرة عنيفة من التجارب السابقة، وفق ادعاء الشرطة. حتى أن الشرطة منعت وقفات احتجاجية لا تحتاج ترخيص قانوني بادعاء أن مثل هذه الوقفات قد تتحول إلى مظاهرات عنيفة. وأيدت المحكمة العليا الإسرائيلية موقف الشرطة المذكور بما يتعلق بمنع المظاهرات واقتبست هذا القرار محاكم أخرى في دعمها لموقف الشرطة الرافض للوقفات الاحتجاجية. مـؤخرًا سمحت المحكمة العليا القيام بمظاهرة مشتركه لنشطاء عرب ويهود لوقف الحرب في تل أبيب بشروط.

وعلى أرض الواقع اليوم، هناك اعتقالات كثيره بكل ما يتعلق بمناشير على منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وتويتر، وحتى أن نشر اي منشور غير قانوني في ما يسمى “الستوري” أو “الحالة” في الواتساب يؤدي إلى اعتقال وتحقيق. ومثال ذلك لائحة اتهام قدمت ضد شاب من المثلث بأنه: “قام بنشر فيديو داعم للإرهاب على الحالة في الواتساب وبعث نسخه منه لقريبته”، حيث أنه وبسبب هذا النشر رفضت المحكمة الافراج عنه بشروط حبس منزلي لدى أقارب له لعدم اقتناعها بأن بديل الاعتقال الذي طرحه المعتقل يضمن عدم نشره منشورات أخرى. وفي حالة أخرى أصرت المحكمة أن يرسل المعتقل لضابط السلوك قبل صدور قرار بطلب اعتقاله بعد أن اتهم بمناشير داعمة للإرهاب. كما وتم مسائلة صحفية قامت بكتابة منشور “إنا لله وإنا إليه راجعون” من قبل الشرطة، ولما شرحت لهم أن والدتها توفيت من قريب تفهمت الشرطة الأمر. مثال آخر لطالبة جامعية فصلت من جامعتها لوضعها إشارة إعجاب على منشور تحريضي وبعد مثولها أمام جلسة طاعة في الجامعة أعيدت لصفوف الجامعة بعد أن ادعت أنها لم تقصد وضع إشارة إعجاب وأنه على ما يبدو ضغطت عليه سهوًا.

الأمثلة كثيره لكن المشترك فيها أن توجه المحاكم هي الاعتقال في ملفات النشر على منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن إمكانية عرض بديل اعتقال أمام المحكمة بموجبه يمنع المعتقل من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي أو ضوابط أخرى قد تقتنع بها المحكمة.

قبل أن أختم من المناسب بمكان أن انوه أن القاصرين دون الثامنة عشرة من عمرهم ليسوا بمنأى عن المسائلة القانونية. وان هناك تخوف من اختلاط الأمور على الناس، وأن يتم التحقيق مع أشخاص على منشورات قصدوا فيها أشياء معينة أو كتبت بسياق مناسبات شخصية وليس وفقا لما تم تأويله من قبل الشرطة، مما قد يقوض حرية التعبير عن الرأي بما يتعلق بالأمور التي لا علاقة لها بالحرب إطلاقًا.

في ظل هذه الظروف يقع على كاهل القانونيين حمل كبير لتوعية الجمهور وتوضيح الوضع القانوني الراهن وتبعاته. كما أن على المؤسسات الحقوقية التصدي لأي قانوني غير معقول وغير منطقي يتم سنه في هذه المرحلة الحرجة، من خلال الهيئات القانونية المختلفة.

 

هنا المصدر الأصلي للمقال

شارك عبر شبكات التواصل :

اخر الأخبار