مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان

Organization for Human Rights Meezaan

مراجعة لتقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة والتطورات الأخيرة في الخطاب حول فلسطين/ إسرائيل

مقالات قانونية

تحول دولي نحو معالجة الأسباب الجذرية للنضال الفلسطيني؟

مراجعة لتقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة والتطورات الأخيرة في الخطاب حول فلسطين/ إسرائيل

إحسان عادل و حسان بن عمران

 

 

أولا: خلفية

في 18 أكتوبر/تشرين أول 2022، واستناداً لقرار مجلس حقوق الإنسان 5/1، نشرت د. فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المنتخبة حديثاً والمعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، تقريرها الأول، والذي تناول حق الفلسطينيين في تقرير المصير والمسؤولية الدولية تجاه إعماله. وباعتباره سابقة مهمة، وربما علامة فارقة في المشهد القانوني الدولي لفلسطين، قامت منظمة القانون من أجل فلسطين بنشر ملخص للتقرير.

ما هو جدير بالاهتمام، أنه وبعد يومين من صدور التقرير، أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وإسرائيل، التي يشار إليها باسم لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، تقريرها المهم، الذي خلص إلى أن هناك “أسبابا لاستنتاج أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أصبح الآن غير قانوني”. ويعني هذا أن الاحتلال الإسرائيلي أصبح غير قانوني في حد ذاته، وليس أفعاله فقط، ومن ثم يجب إنهاؤه على الفور، دون ربط ذلك بالمفاوضات.

سرّع هذا التقرير من السعي الفلسطيني للحصول على رأي استشاري جديد من محكمة العدل الدولية بشأن قانونية/عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي المطول، ومسؤولية الدول الأخرى تجاه إنهائه. تمت الموافقة على مشروع قرار بهذا الخصوص الشهر الماضي من قبل اللجنة الرابعة للأمم المتحدة (الخاصة بإنهاء الاستعمار)، وسيتم التصويت على مشروع القرار خلال الدورة الجارية للجمعية العامة للأمم المتحدة -من المتوقع أن يتم التصويت في غضون الأيام القليلة المقبلة-. إذا تمت الموافقة عليه، فإن هذه القضية المهمة ستكون على طاولة محكمة العدل الدولية لإصدار رأي قانوني.

ومنذ وقت ليس ببعيد، أكدت العديد من المنظمات غير الحكومية وكذلك المقرر الخاص السابق في الأمم المتحدة البروفيسور مايكل لينك في تقريره النهائي على قضية الفصل العنصري كإطار لوصف الوضع الحالي في فلسطين، ليتم استكماله الآن من خلال تقرير فرانشيسكا ألبانيز الذي يسلط الضوء على زاوية المناهضة للاستعمار.

كل هذه التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الموثوقة هي مؤشر واضح على أن الخطاب القانوني الدولي يتغير وينتقل من الوضع الراهن الذي انبثق منذ اتفاق أوسلو، إلى الخطاب الذي يتناول الأسباب الجذرية للنضال الفلسطيني، كما كان الحال قبل بدء عملية السلام: أي خطاب تقرير المصير ومناهضة العنصرية والاستعمار.

وكواحد من أحدث وأهم التطورات في الخطاب القانوني الدولي، كما سنناقش أدناه، يتناول هذا المقال أهمية التقرير الأخير لفرانشيسكا ألبانيز وتفاصيله ويشرح سبب اختلافه عن غيره وكيفية التعامل معه وترجمته إلى أفعال.

فمن وجهة نظرنا، لم يكن هذا التقرير مجرد تقرير توثيقي إضافي آخر يصف الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل، وإنما وثيقة قانونية وسياسية تغوص في العمق في سعيها لتغيير موقف المجتمع الدولي باتجاه اتخاذ موقف جاد للوصول لحل عادل وقائم على الحقوق ومستند لاحترام التاريخ والقانون الدولي. على هذا النحو، يختلف هذا التقرير عن تقارير الأمم المتحدة الأخرى، والتي غالبا ما تتبع نهج “التهميش القانوني الدولي”، كما صاغه وشرحه البروفيسور أرضي امسيس، والذي يسلط الضوء ببساطة على الانتهاكات اليومية للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، دون النظر إلى الأسباب الجذرية للصراع.

وبدلاً من ذلك، يتعامل هذا التقرير مع جوهر المشكلة، فهو يضع الاحتلال في سياقه الأوسع، مستشهدا بخطط واستراتيجيات الآباء المؤسسين لإسرائيل ومن تلاهم، وينتقل من التكرار غير الفعال لنفس الحلول القديمة التي ثبت استحالة تحقيقها (مثل إنهاء الاحتلال من خلال المفاوضات). لم تعد هذه الحلول أكثر من مسكّنات لشخص ينزف، فيما يتم تجاهل جرحه المفتوح.

 

ثانيا: نظرة معمقة في محتوى التقرير

يبدأ التقرير ببناء سرد تاريخي بالإشارة إلى الانتداب البريطاني، ونكبة عام 1948، عندما بدأت المحنة تأخذ منحى آخر. صحيح أن التقرير، كما أوضحت المقررة الخاصة في مقدمته، لا يغطي كافة شرائح الشعب الفلسطيني، حيث يستثني الفلسطينيين في إسرائيل واللاجئين، وذلك بسبب القيود الإجرائية لولاية المقررة الخاصة؛ والمحصورة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 (الأمر الذي قد يحتاج إلى تفكير بتدخل من مجلس حقوق الإنسان لتوسيع التفويض الممنوح لها). ومع ذلك، فإن جوهر التقرير، وهو الحق في تقرير المصير، إنما يتعلق بجميع الفلسطينيين، كشعب، بغض النظر عن جغرافيتهم أو وضعهم القانوني. في الفقرة 15 من تقريرها، توضح ألبانيز أن الحق في تقرير المصير يشكل “الحق الجماعي بلا منازع”، والحق الأساسي لإعمال العديد من الحقوق الأخرى، وبدون هذا الحق، “من المؤكد أن الحقوق الأخرى لن تتحقق” كما توضح.

يجعلنا ذلك نفكر في سبب عدم اهتمام الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين في تقرير المصير منذ عام 1947!؟ لماذا لم يتم إجراء استفتاء لمعرفة ما يريده الفلسطينيون في ذلك الوقت!؟ لماذا لم يكن هناك استفتاء على خطة التقسيم!؟

في أغسطس/آب 1947، أصدرت لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين (UNSCOP)، والمكونة من 11 عضوًا، تقريرها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أوصى غالبية أعضائها بتقسيم فلسطين إلى دولتين منفصلتين عربية ويهودية، مع تدويل القدس. أصبحت خطة الأغلبية هذه أساس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. وفقًا للمقرر الخاص السابق للأمم المتحدة لفلسطين البروفيسور مايكل لينك، لم يقم أي من هؤلاء الأعضاء الأحد عشر، الذين قرروا مصير فلسطين والفلسطينيين دون استشارة قيادتهم على الأقل، بزيارة فلسطين، “أو عرف الكثير عنها بالفعل، قبل تعيينهم في اللجنة”.

ولكي لا نجعل هذا النقاش لعبة لإلقاء اللوم والافتراض القائم على “ماذا لو”، لم يفت الأوان بعد لتعويض هذا الخطأ التاريخي الجسيم وإجراء استفتاء للشعب الفلسطيني بأسره، ولا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلة واللاجئين.

على سبيل المثال، كجزء من استطلاعات الرأي المنتظمة بين اللاجئين الفلسطينيين التي يجريها مركز بديل، أظهرت النتائج أن حق العودة جزء لا يتجزأ من هوية اللاجئين الفلسطينيين. كان الاعتقاد بجدوى العودة مرتفعاً بشكل استثنائي بين الشباب الفلسطيني، حيث بلغ 81.3٪ بشكل إجمالي، فيما وصل إلى 97٪ في حالة استبعاد الأشخاص النازحين داخليًا عام 1948.

 

لماذا تقرير المصير ولماذا الآن؟

قبل طرح مسألة الحق بتقرير المصير، أوضحت السيدة فرانشيسكا سبب كون إطار الاحتلال لتناول المسألة قديمًا وغير كاف، كما سيتم شرحه لاحقًا في هذا المقال. وشددت على أن الإطار المعياري للفصل العنصري المقدم حديثًا، رغم كونه ضروريًا للغاية لتسليطه الضوء على محنة االفلسطينيين والتغلب على فحص الانتهاكات الإسرائيلية بشكل فردي، فإن له عدة قيود رئيسية، خاصة إذا لم يتم تناوله باعتباره جزءًا من “فحص شامل لتجربة الشعب الفلسطيني ككل”.

فأولاً، تجد المقررة الخاصة أن الطبيعة “الإقليمية” لخطاب الفصل العنصري (كما تم عرضه في أحدث التقارير المنشورة) إشكالية، لأنها تستثني اللاجئين الفلسطينيين، وتقتصر على الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. ثانيًا، إن التركيز على خطاب الفصل العنصري يغفل “عدم الشرعية المتأصلة للاحتلال الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية والانتهاكات اللاحقة. ثالثًا، لا يمكن لإطار الفصل العنصري، عندما يؤخذ بمفرده، معالجة الأسباب الجذرية لمحنة الفلسطينيين؛ التي يجب أن تؤخذ في السياق التاريخي والاستيطاني الاستعماري الكامل.

 

استكشاف السبب الجذري: الاستعمار الاستيطاني

يوضح التقرير أنه منذ بداية احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأت إسرائيل عملية نزع الطابع الفلسطيني عن الأراضي المحتلة من خلال عدة استراتيجيات وضعها الاستراتيجيون الإسرائيليون، كما في خطة ألون Allon Plan.

وهكذا، اتبعت إسرائيل استراتيجيات (1) “التجزئة الاستراتيجية” للأرض للتحايل على السيادة الفلسطينية، (2) منع الازدهار الاقتصادي ووسائل النمو من خلال استغلال الموارد الطبيعية، (3) منع الهوية من خلال محو الثقافة والتراث الفلسطيني والحقوق المدنية، و (4) منع الوجود السياسي (والمقاومة) وبناء الدولة للالتفاف على أي فرصة للفلسطينيين لممارسة حقهم في تقرير المصير. تشكل هذه الأربعة مجتمعة أسس ما يمكن وصفه باعتباره “نظاما استعماريا استيطانيا إسرائيليا”.

وهنا، قد يجادل البعض بأن الاستعمار ينطوي على انتهاك للسيادة وضم الأراضي المستعمَرة، وهو الشيء الذي لم تفعله إسرائيل بشكل كامل علنًا حتى الآن. ومع ذلك، فإن “الإعلان” عن فعل ما كشكل من أشكال الاستعمار ليس شرطًا لاعتباره كذلك. الإجراءات على الأرض التي تفضي إلى استنتاج أن هذا عمل استعماري تكفي لاستنتاج أن هناك استعمار فعليًا de facto colonialism. ففي وقتنا الحاضر، ومنذ أن توقف الاستعمار عن كونه أمرا “عصريًا أو حضاريا”، تعمل الدول بجد لتجنب تسميتها كأنظمة استعمارية، ولذا فهي تمارسه بدلاً من ذلك دون الإعلان رسميا عن المسمى. هذا لا يجعلها في وضع “غير استعماري”. حتى الدول التي تغزو دولًا أخرى بشكل غير قانوني، تعمل بجد لتقديم مبرر “قانوني” كذريعة، فهي لا تعلن أنها “تمارس عدوانا”. لذلك، يقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية وضع معايير واضحة لما يشكل استعمارًا في العصر الحديث، بدلاً من انتظار قبول الدولة التي تمارسه لقبول هذا الوصم. علاوة على ذلك، دعونا نتذكر أن إسرائيل ضمت القدس الشرقية ومرتفعات الجولان رسميًا.

التفاوض على غير القانوني

في الفقرات 33 إلى 42 منه، يضع التقرير الاحتلال في سياقه الأوسع، حيث يحلل كيف بدأ وما هي رؤية القادة الإسرائيليين، ليس فقط لتلطيخهم بانتهاكهم القانون الدولي، ولكن أيضًا لتوصيف الوضع قانونيًا بطريقة تخرج عن الترديد الببغائي المتمثل في تكرار “الاحتلال ينتهي بالمفاوضات”؛ وهو الموقف الدولي السائد الآن. وبينما يستثمر المجتمع الدولي في حل قائم على المفاوضات، لا يخفي القادة الإسرائيليون أن كل الأرض هي جزء من إسرائيل الكبرى، وأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية.

وقد تحدث تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة الأخير بالتفصيل عن كيفية اعتبار الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني في حد ذاته بسبب سياساته التي تشير إلى الديمومة والضم الفعلي وليس إلى وضع مؤقت. تنص الفقرة (30) من التقرير على ما يلي:

“أدى إنشاء المستوطنات الإسرائيلية وصيانتها وتوسيعها في جميع أنحاء الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، إلى تفتيت الفلسطينيين وعزلهم عن أراضيهم وكذلك عن المجتمعات الفلسطينية الأخرى”.

وبعد دراسة طبيعة وممارسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خلصت اللجنة في الفقرة (75) إلى أن:

“هناك أسبابا معقولة للاستنتاج بأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بات الآن غير قانوني بموجب القانون الدولي بسبب ديمومته والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لضم أجزاء من الأرض بحكم الواقع وبحكم القانون. وإن الأعمال  التي تقوم بها إسرائيل وتهدف إلى خلق حقائق لا رجعة فيها على الأرض وتوسيع رقعة سيطرتها على الأراضي هي انعكاسات ودوافع لاحتلالها الدائم”.

وكان المقرر الخاص السابق لفلسطين، البروفيسور مايكل لينك، ذكر في تقريره عام 2017، أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة قد تجاوز عتبة الشرعية؛ وهو رأي تم تأكيده في الأدبيات التالية. وضع لينك اختبارًا من أربعة أجزاء للتحقق مما إذا كان الاحتلال العسكري قد تجاوز عتبة الشرعية: (1) لا يمكن لدولة الاحتلال أن تضم أيًا من الأراضي المحتلة ، (2) الاحتلال مؤقت بطبيعته، ويجب على دولة الاحتلال أن تسعى إلى إنهاء الاحتلال في أقرب وقت ممكن في حدود المعقول، (3) أثناء الاحتلال، يجب العمل من أجل المصلحة الفضلى للشعب الواقع تحت الاحتلال، (4) يجب على قوة الاحتلال التصرف بحسن نية. في استنتاجه، اقتبس لينك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن ناميبيا حيث “وجدت محكمة العدل الدولية أن انتداب جنوب إفريقيا أصبح غير قانوني نتيجة لتطلعاتها إلى الضم، ووجودها لفترة طويلة، وفشلها كوصي، وإدارتها سيئة النية”. لذلك، خلص لينك إلى أن إسرائيل، بصفتها محتلة، قد تجاوزت الخط الأحمر للشرعية.

تم شرح هذا الرأي بمزيد من التفصيل في مقال البروفيسور أرضي امسيس بعنوان “التفاوض على غير القانوني: الأمم المتحدة والاحتلال غير القانوني لفلسطين 1967-2020”، حيث تناول عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي المطول للأراضي الفلسطينية المحتلة بالتفصيل، موضحًا الانتهاك المنهجي لـ ثلاثة قواعد آمرة: حظر الاستيلاء على الأراضي من خلال التهديد بالقوة أو استخدامها، والالتزام باحترام حق الشعوب في تقرير المصير، والالتزام بالامتناع عن فرض أنظمة أجنبية معادية للبشرية، بما في ذلك أنظمة التمييز العنصري. في مدونة له نشرت على موقع EJIL عام 2020، يوضح امسيس أن الاحتلال بحد ذاته لا يمثل حالة غير قانونية تتطلب إنهاءًا فوريًا. ولكن “عدم شرعية الاحتلال، والتي تُقاس من خلال انتهاكه المنهجي لهذه المعايير، تؤدي إلى التزامات محددة بموجب قانون المسؤولية الدولية لإنهاء الاحتلال فورًا ودون قيد أو شرط”.

يعيد ذلك انتباهنا إلى العديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي وصفت الاحتلال الإسرائيلي بأنه غير قانوني في السبعينات. تلاشى هذا الوصف مع تقدم الزمن، لأسباب سياسية في الغالب، مثلما حدث مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية. من الصعب جدًا تخيل أن الاحتلال وُصف بأنه غير قانوني في مرحلة ما ثم أصبح قانونيًا بعد ذلك!

هنا، أعادت السيدة ألبانيز في تقريرها التأكيد على نفس النتيجة التي توصل إليها السيد لينك، وأكدته مؤخرًا لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة كما ذكرنا أعلاه. وهذا يشير إلى إدراك دولي متزايد، تسارع في السنوات القليلة الماضية، بأن الاحتلال الإسرائيلي، حتى لو بدأ افتراضياً كاحتلال قانوني، قد تجاوز عتبة الشرعية، وأضحى احتلالا غير قانوني. هذه التقارير في رأينا لا تخلق وصفاً جديداً، بل تستأنف الموقف القانوني الأصلي للجمعية العامة للأمم المتحدة كما كان في حقبة إنهاء الاستعمار: الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني!

وانطلاقا من عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن “الاتفاقات الخاصة [بموجب اتفاقية جنيف الرابعة] لا يمكن أن تنتهك القواعد الآمرة أو تنتقص من حقوق الأشخاص المحميين”، تشير الفقرة 65 من تقرير ألبانيز بوضوح إلى قيود اتفاقيات أوسلو بهذا الخصوص:

“… لا يمكن لاتفاقات أوسلو أن تتنازل عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير. ولا يمكن أن تتأثر هذه القاعدة الآمرة الأساسية سلبا بالمفاوضات، لا سيما بالنظر إلى عدم تناسق القوة التفاوضية بين المحتل والواقع تحت الاحتلال (أي بين المستعمِر والمستعمَر). ومن شأن أي تفسير لاتفاقات أوسلو ينفي حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير أن يجعل الاتفاقات نفسها موضع شك، إن لم تكن باطلة.”

يتسق هذا الموقف بصورة ما مع موقف المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، حول اتفاقيات أوسلو.

إن القضية الرئيسية في اتفاقيات أوسلو، والنهج القائم بالكامل على المفاوضات للوصول لعملية السلام، هو أنها انطلقت من تصور أن إسرائيل هي قوة احتلال عادية، وبالتالي، سيتم التوصل إلى حل مرض للطرفين من خلال المفاوضات، كما كان الحال في العديد من الأمثلة الأخرى حول العالم.

ومع ذلك، كما هو مبين بوضوح في تقرير فرانشيسكا البانيز، جنبًا إلى جنب مع تقرير المقرر الخاص السابق مايكل لينك، وتقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة: نحن نشهد احتلالًا استحواذيًا وبشكل متعمد يمارس الفصل العنصري وهو غير قانوني وذو طبيعة استعمارية استيطانية، وبالتالي فإن أي مفاوضات ضمن هذه الصيغة ستكون لصالح الجانب الأقوى؛ المستعمِر. لا يمكن تصور حل تفاوضي بين مستعمِر يعتبر البقاء في الأراضي المستعمَرة جوهر سياسته، وشعب مستعمَر يتوق للتحرر. لذلك، كانت الأمم المتحدة دائمًا هي المسؤولة عن إنهاء الاستعمار.

 

تشير المقررة الخاصة بوضوح إلى ذلك في الفقرة 75 من تقريرها:

“وفقا لما أظهرته عملية أوسلو ، فإنه لا يمكن لمفاوضات السلام بتفويض سياسي أن تنجح بدون حل وضع التبعية الدائم للفلسطينيين، وبالتالي بدون تحدي المساعي الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية.”

في عام 2012، بعد أكثر من عقدين من عملية السلام، أشار وزير الخارجية النرويجي السابق ورئيس لجنة الاتصال المخصصة لتنسيق إيصال المساعدات الدولية إلى الأراضي الفلسطينية (AHLC)، يوناس غار ستوير، إلى أن عملية السلام كانت تعمل أساسًا على إدامة الوضع الراهن بدلاً من المساهمة في السلام. والآن باختصار: انتهت اللعبة، ولكن الثمن كان باهظًا: المزيد من المستوطنات، استمرار معاناة اللاجئين الذين تعرض بعضهم للنفي مجددا كأولئك الموجودين في سوريا، والأسوأ من ذلك كله، أصبح حق الفلسطينيين في تقرير المصير بمثابة “شعار أيديولوجي بدلاً من كونه مبدأً قانونيًا متماسكا لا يُسمح بأي انتقاص منه ويُنشئ التزامات قانونية واضحة”، كما أوردت المقررة الخاصة في تقريرها – الفقرة 15.

وفي ضوء الفهم الدولي المتزايد بأن عملية السلام تديم وتزيد من معاناة الفلسطينيين، تضيف المقررة الخاصة -في الفقرة 66- رسالة لا ينبغي للفلسطينيين ومؤيديهم تجاهلها:

“..أي حل يديم الاحتلال، ولا يعترف بعدم التماثل في القوة بين الشعب الفلسطيني المقهور ودولة إسرائيل المحتلة، ولا يعالج الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي نهائيا، فإنه ينتهك حق الفلسطينيين في تقرير المصير، من بين أحكام حاسمة أخرى في القانون الدولي”.

 

الحق في المقاومة

بينما تناقش حق تقرير المصير، شددت المقررة الخاصة في تقريرها على مكوّنين متشابكين لهذا الحق: مكون سياسي ومكون اقتصادي. يضمن السياسي قدرة الشعب على اختيار حكومته وحكم نفسه دون تدخل؛ وهو ما ينطوي على بعد داخلي (الديمقراطية والانتخابات) وآخر خارجي (التحرر من السيطرة الخارجية والتبعية الأجنبية). فيما يختص المكون الاقتصادي بالحق الجماعي للشعب في التمتع بثرواته وموارده الطبيعية كتعبير عن السيادة الدائمة عليها. وهذا يعني، كما يوضح التقرير في الفقرة 19 منه، أن البعد الخارجي للمكون السياسي يعني ضمناً الحق في مقاومة الهيمنة الأجنبية والقهر والاستغلال التي قد تعيق تحقيق تقرير المصير.

يتسق هذا مع ما تحدثت عنه أستاذة العلوم السياسية فيرجينيا تيلي سابقًا في دراستها “الاحتلال، الاستعمار، الفصل العنصري؟ إعادة تقييم ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب القانون الدولي”. حيث أضافت تيلي نتيجتان قانونيتان حيويتان على تصنيف الاحتلال باعتباره استعمارا. أولاً، الاحتلال الذي يتبين أنه يمارس الاستعمار عليه أن ينسحب دون أي شروط أو تحفظات، وذلك وفقًا للفقرة الخامسة من إعلان إنهاء الاستعمار. ثانيًا، يفتح هذا التصنيف الباب أمام حق الشعب المحتل والذي يعيش تحت الاستعمار في المقاومة من أجل تحقيق حقه في تقرير المصير. هذا الحق في المقاومة يستحق التأييد والدعم من قبل المجتمع الدولي على النحو المنصوص عليه في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية.

وبينما يمكن فهم هذه النقطة الأخيرة على أنها تحصر الحق في المقاومة في حالات الاستعمار؛ لا سيما أن كثيرين يحاولون الضغط من أجل ذلك، فإننا نجد من المهم التأكيد على أن الإطار القانوني الدولي يتعامل مع هذا الحق أيضًا في إطار الاحتلال. تنص اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة والمادة 1 (4) من البروتوكول الإضافي الأول على ذلك بوضوح. تنص المادة 1 (4) على أن النزاعات المسلحة التي تقاتل فيها الشعوب ضد السيطرة الاستعمارية أو الاحتلال الأجنبي أو الأنظمة العنصرية في ممارستها لحقها في تقرير المصير، يجب اعتبارها نزاعات دولية. كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة قرارات في السبعينيات والثمانينيات تدعو بوضوح إلى دعم حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وتحث المجتمع الدولي على دعمه.

لكن اللافت والمهم هنا هو أن هذا التقرير يمثل المرة الأولى، منذ بدء عملية السلام قبل ثلاثة عقود، التي يشير فيها تقرير رفيع المستوى للأمم المتحدة إلى حق الفلسطينيين في المقاومة.

وهكذا، يمكن اعتبار هذا التقرير بمثابة استئناف لجهود إنهاء الاستعمار في السبعينيات، والتي بدأت تضعف في الثمانينيات وما بعد ذلك. وعلى الرغم من أن المناخ السياسي الدولي الآن مختلف تمامًا عما كان عليه في ذلك الوقت، إلا أنه لا يزال هناك فرصة لدفع تلك الدول التي كانت ضحية للاستعمار للانضمام مرة أخرى إلى النضال من أجل حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإنهاء النظام الاستعماري المفروض عليهم.

 

المجتمع الدولي مسؤول!

وافق المجتمع الدولي في إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة على ضرورة إنهاء الاستعمار بجميع أشكاله، وتأكيد حق الشعوب في تقرير المصير والسيادة والسلامة الإقليمية. ولأن الإعلان يستند إلى الحقوق الآمرة الأساسية في القانون الدولي، فقد جادل العديد من العلماء بأنه ذو طبيعة عرفية. كما دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة كل الدول إلى تقديم المساعدة للأمم المتحدة من أجل “إنهاء الاستعمار على وجه السرعة”.

وهكذا، فإن وضع الاحتلال الإسرائيلي في سياق استعماري-استيطاني يعني أننا نتحدث عن قواعد عرفية ملزمة لا يمكن للدول الانتقاص منها، والدول باعتبارها أطرافا ثالثة ملزمة برفض الاستعمار والامتناع عن دعمه والعمل على إنهائه. تقول ألبانيز في الفقرة 23 من تقريرها:

“تنبع حرمة الحق في تقرير المصير من طابع الحجية المطلقة تجاه الكافة وقواعده الآمرة. وتعني كلمة الحجية المطلقة تجاه الكافة “Erga omnes” أن لجميع الدول مصلحة متأصلة في إعمال الحق في تقرير المصير  الذي يدين به المجتمع الدولي بأسره والالتزام باحترامه… إن المجتمع الدولي ملزم بضمان أن تحقق جميع الشعوب التي يحق لها تقرير المصير ذلك بفعالية، وإزالة جميع العقبات”[9].

وهذا يعني أن على الدول الثالثة اتخاذ تدابير للضغط على الدول التي تنتهك حق تقرير المصير لشعب آخر من أجل دفعها لاحترامه ووقف انتهاكاتها، كما هو مفهوم من المادة 1 (3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وانطلاقًا من هذا، تقدم ألبانيز في الفقرة 24 من تقريرها مثالًا واضحًا على كيفية تحمّل الدول الثالثة لهذه المسؤولية في حالتي ناميبيا وأوكرانيا:

“توثق الممارسة الدولية، بدءا من ناميبيا المحتلة في الخمسينيات إلى أوكرانيا المحتلة في عام 2022، كيف استخدم المجتمع الدولي، سواء من خلال المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم المخصصة، أو الجمعية العامة، ومجلس الأمن، وفرادى الدول من خلال الولايات القضائية المحلية والعقوبات، الوسائل التي يوفرها القانون الدولي لإنهاء الاحتلال غير القانوني وأشكال الاستبعاد. وبموجب قانون تقرير المصير الخارجي، يحق للشعب الفلسطيني، بل ويجب، أن يتمتع بتعاون دولي مماثل وبالعمل الجاد”.

من خلال هذه الفقرة، ترسم المقررة الخاصة خطة عمل لما يجب أن يفعله المجتمع الدولي لفلسطين. لا تستند خطة العمل هذه إلى “دعوة” طرفين غير متكافئين إلى مفاوضات لا تنتهي، بل إلى تدابير ملموسة نابعة من المسؤولية التي يكفلها إعلان الأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار. وشددت في الفقرة 75 من تقريرها على أنه “يجب أن يكون إنهاء الاحتلال الاستعماري الاستيطاني شرطًا لا غنى عنه لكي يتمتع الفلسطينيون بحقهم في تقرير المصير في الأراضي الفلسطينية المحتلة، دون أن يضطروا إلى التفاوض بشأن شروط إخضاعهم”.

بالإضافة إلى ما أوردناه حول مسؤولية الأطراف الثالثة (أي دول العالم التي ليست طرفا مباشرا في النزاع)، نشير إلى ما ورد في الفقرة (89) من تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، والتي نوهت إلى أن محكمة العدل الدولية كانت “أكدت أنه، بموجب المادة 1 من اتفاقية جنيف الرابعة، فإن كل دولة طرف ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناتج عن بناء الجدار… وعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناجم عن هذا البناء. كما أعربت عن رأي مفاده أن الأمم المتحدة… ينبغي أن تنظر في الإجراءات الإضافية المطلوبة لإنهاء الوضع غير القانوني الناتج عن بناء الجدار والنظام المرتبط به”.

 

وكانت الفقرة (90) من نفس التقرير أشد وضوحا بشأن مسؤولية الأطراف الثالثة حيث أوضحت ما يلي:

“المواد من 146 إلى 148 من اتفاقية جنيف الرابعة تطالب الدول الأطراف أيضًا بفرض عقوبات جزائية على الأشخاص الذين يرتكبون، أو يأمرون بارتكاب، انتهاكات جسيمة… مثل الترحيل أو النقل غير القانونيين، أو الحبس غير القانوني لشخص محمي، وتدمير ومصادرة الممتلكات دون وجود ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبطريقة غير مشروعة وتعسفية”.

تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية، بلا تجميل

في ضوء هذا التقرير، وجميع التقارير التي سبقت من المقررين الخاصين السابقين للأمم المتحدة، إلى جانب التقرير الأخير للجنة التحقيق وتقارير المنظمات غير الحكومية التي تذكر وتدين بشكل لا لبس فيه أن إسرائيل تمارس الفصل العنصري، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ما كان سائدا من قبل هو مجرد قراءة خاطئة للوضع، أم هو غياب الإرادة السياسية لدى بعض القوى، ولا سيما الولايات المتحدة بتاريخها الإمبريالي، والتي تسعى بقصدٍ إلى حماية إسرائيل من المساءلة بأي ثمن!؟

في الفقرة 8 من تقريرها، تقول فرانشيسكا ألبانيز إن المجتمع الدولي من خلال انخراطه في نهج التنمية الإنسانية والسياسية والاقتصادية في التعامل مع القضية الفلسطينية “بدا أنه يعتقد أن الاحتلال سينتهي عندما تتمكن الأطراف، غير المتكافئة بشكل صارخ في القوة، من التوصل إلى حل تفاوضي”.

ولكن هذا يجعلنا نطرح التساؤل مرة أخرى: هل كانت المسألة حقا تتعلق بتصورات وأفكار المجتمع الدولي حول الوضع، ومن ثم فهي مسألة “اختلاف في الرؤية”، أم أنها بالأحرى جزء من سياسة استعمارية أكبر تدعمها بعض القوى العظمى، أو، في أحسن الأحوال، طريقة سهلة للتنصل من مشكلة لم يعودوا يريدون التعامل معها!؟

تتجاهل المقاربات الدولية التي تنظر للطرفين بالتساوي حقيقتين: الأولى أن السلطة الفلسطينية تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي وليست مساوية له، وأن قيادتها تحت الاحتلال وغير قادرة على الانتقال من مدينة فلسطينية إلى أخرى دون إذن من سلطات الاحتلال. والثانية أن هناك أناسًا يعيشون في حالة من الرفاهية، ويتنقلون داخل بلدهم براحة، ويسافرون من مطار بلدهم إلى أي مكان في العالم، ويتزوجون ممن يريدون، فيما هناك أشخاص، من الناحية الأخرى، نصفهم لاجئون مشردون حول العالم، والنصف الآخر يعيش تحت الاحتلال والحصار ونقاط التفتيش بلا رحمة، وغير قادرين على اتخاذ أبسط قرارات الحياة مثل الزواج من شخص من خارج الأراضي المحتلة!

في المؤتمر الدولي لمنظمة القانون من أجل فلسطين، والذي عُقد في نوفمبر/تشرين ثاني 2021، دعا المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة البروفيسور ريتشارد فولك إلى “تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.. بلا تجميل”: ما نشهده أمام أعيننا هو نظام فصل عنصري واحتلال غير شرعي انبثق من نظام استعمار استيطاني.

إن تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية ستجعل من الصعب بالتأكيد على أولئك الذين يريدون مخرجًا سهلًا دون إعمال الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف. إن ذلك سوف يفقد الحكومات المتواطئة مع الوضع الراهن ذرائعها لتبرير سياساتها أمام شعوبها وناخبيها، وسوف يضعها في موضع واضح، وهو أنها تدعم نظاما استعماريا. وكما ذكر فولك في نفس المؤتمر، هناك حاجة إلى “مجتمع مدني مكافح” يدفع بحزم إلى الأمام نحو إنهاء الاستعمار والفصل العنصري والاحتلال غير القانوني.

 

ثالثا: خلاصة: لماذا هذا التقرير مختلف؟

على ضوء ما سبق. نعتقد أن هذا التقرير هو خطوة مهمة للغاية إلى الأمام في تصور النضال الفلسطيني والتعامل معه والسعي لتحقيق العدالة والمساءلة. إنه ليس مجرد إضافة إلى قائمة طويلة من التقارير، لأنه يعرض الحقائق بوضوح ويدعو إلى اتخاذ إجراءات ملموسة.

فأولاً، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تناول السبب الجذري للنضال الفلسطيني باعتباره نضالا ضد الاستعمار من قبل أحد كبار خبراء الأمم المتحدة، وذلك منذ زوال الخطاب المناهض للاستعمار في الأمم المتحدة وبداية عملية السلام في التسعينيات. وقد يدفع ذلك إلى قيام العديد من هيئات وشخصيات الأمم المتحدة لإعادة النظر في الخطاب المناهض للاستعمار والتعامل مع “الصراع” من خلال تلك العدسات بجهود جادة للتخفيف من الأسباب الجذرية.

ثانياً، كان النهج الشامل للتقرير غير مسبوق من قبل أي خبير أو هيئة في الأمم المتحدة. جمع التقرير عناصر النضال بشكل شامل: نضال شعب ضد الاستعمار والفصل العنصري والاحتلال غير الشرعي سعيا لنيل حقه في تقرير المصير.

ثالثًا، هذا التقرير هو الأول، منذ زوال الخطاب المناهض للاستعمار داخل مؤسسات الأمم المتحدة، الذي يسلط الضوء على السياق التاريخي للنضال، بدءاً من الانتداب البريطاني إلى طرد الفلسطينيين عام 1948 إلى احتلال بقية الأراضي ما أعاق حل الدولتين، ثم تطرق إلى عملية السلام مسمّياً الأشياء بمسمياتها ومعتبرا أنها ليست مفاوضات قائمة على الحقوق، وأنها أضحت نوعا من “التفاوض على غير القانوني”.

رابعًا، أشار التقرير بوضوح إلى محنة اللاجئين الفلسطينيين وحقوقهم، والذين غابوا عن أي محافل أو تقارير دولية منذ بدء عملية السلام، باستثناء الأغراض الإنسانية. وأكد التقرير بوضوح على حقوق اللاجئين الفلسطينيين ودعا إلى “وضع خطة تعويضات … لهم”.

وباختصار، يمكن أن يمثل هذا التقرير، إذا تم تناوله بمسؤولية، علامة فارقة من أجل تغيير الخطاب حول فلسطين وإسرائيل داخل وخارج الأمم المتحدة، يما يؤدي في النهاية إلى نهج قائم على الحقوق ومستند إلى الضحايا لإيجاد حل عادل.

 

رابعًا: قضايا أخرى يجب أن تتناولها الأمم المتحدة في المستقبل

في حين أن التقرير، كما بينّا، يمكن أن يمثل علامة فارقة في تغيير الخطاب القانوني الدولي بشأن النضال الفلسطيني، هناك قضايا نعتقد أنه ينبغي تضمينها في التقارير المستقبلية.

 

مسألة الجغرافيا

لا تزال مسألة الجغرافيا: أين يمارس الفلسطينيون حقهم في تقرير المصير، غامضة. في حين أن ذلك معترف به بوضوح لمن هم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن ماذا عن اللاجئين الفلسطينيين (الذين يشكلون غالبية الشعب الفلسطيني، حوالي 60٪)، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل؟

علاوة على ذلك، بما أن تقرير المصير مرتبط بالجغرافيا، ماذا عن حقيقة أن الأرض الفلسطينية المحتلة لا تزيد عن 22٪ من فلسطين الانتدابية (أقل بكثير من خطة التقسيم التي اقترحت عام 1947)؟

إن الولاية المحدودة للمقررة الخاصة، التي تقتصر على الأراضي الفلسطينية المحتلة، تجعل من الصعب عليها تقديم رؤية ونهج كليين بهذا الخصوص. ولعل هذا يؤكد الحاجة إلى النظر في توسيع نطاق ولايتها لتشمل كل الفلسطينيين، سواء في فلسطين المحتلة، أو إسرائيل، أو الشتات.

 

شيطنة المقاومة الفلسطينية

بينما كان المجتمع الدولي ومؤسساته، وبحق، يسارعون في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ودعم حق أوكرانيا في الدفاع عن النفس (والمقاومة في الأراضي الأوكرانية المحتلة، سواء من قبل الجيش الرسمي الأوكراني أو القوات شبه العسكرية)، لم يعامل الفلسطينيون على قدم المساواة. تعرضت المقاومة الفلسطينية لهجوم مستمر وجهود شيطنة من قبل إسرائيل وحلفائها في المحافل الدولية.

وهنا ينبغي التنويه إلى أن الفعل غير المشروع من قبل أعضاء المقاومة الفلسطينية لا يجعل حق الدفاع عن النفس والمقاومة الفلسطينية غير مشروعة في حد ذاتها. رحب الفلسطينيون، من جميع الفصائل، بالتحقيق الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المزعومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الجرائم المزعومة ضدهم.

 

العنصرية ضد الفلسطينيين (APR) وتقلص مساحة النشاط المؤيد للفلسطينيين

يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مساحة وفرص أقل للدفاع عن أنفسهم وتعزيز روايتهم حتى من خلال الأساليب السلمية مثل حركة المقاطعة، التي تجد نفسها تحت النيران في عدة دول. يتم إسكات وقمع حق الفلسطينيين وأنصارهم في حرية التعبير بشكل غير قانوني. حتى المقررة الخاصة للأمم المتحدة نفسها، ولجنة التحقيق الأممية، ومن قبلهم العديد من المنظمات الحقوقية ك هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، لم تسلم من هذه الهجمات المضللة. على الأمم المتحدة أن تأخذ دورا بهذا الخصوص.

 

التطهير العرقي عام 1948

اللاجئون الفلسطينيون لم يقرروا طواعية مغادرة منازلهم عام 1948. ينبغي التحقيق في مزاعم أن ما جرى كان عملية تطهير عرقي اشتملت على العديد من أعمال الإبادة الجماعية.

 

خامسا: ماذا الآن؟ ترجمة تقرير المقررة الخاصة إلى أفعال

كان التقرير غير مسبوق في كثير من الجوانب وعلى مستويات عديدة، كما أوضحنا. حان الوقت الآن للتأكد من عدم مروره مرور الكرام وتجاهله من قبل الأطراف الثالثة ذات الصلة، وهيئات الأمم المتحدة. لذلك نقترح ما يلي:

لقد أصبح توسيع ولاية المقرر الخاص للأمم المتحدة زمنياً وجغرافياً أمراً ضرورياً. يجب توسيعها لتشمل إسرائيل. وأن تشمل الفلسطينيين أينما وجدوا. يمكن النظر إلى هذا التقرير على أنه مؤشر واضح لقيود هذا التمييز الإجرائي حيث أن قضايا الفلسطينيين مترابطة ومتشابكة.

إعادة تنشيط لجان الأمم المتحدة التي كانت تعمل على إنهاء الاستعمار. على المجتمع الدولي أن يتبنى، وأن يدفع بشكل خاص الدول المنخرطة في فلسطين/إسرائيل لتبني وتسمية الممارسات الإسرائيلية على حقيقتها: استعمار وفصل عنصري واحتلال غير شرعي.

تشكيل لجنة تابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة تتمتع بصلاحية حصرية لمراقبة قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تتجاهلها إسرائيل وتخرقها.

بالنسبة للمفاوض الفلسطيني، يجب أن تنطلق المفاوضات من حقيقة أن الاحتلال نفسه غير قانوني وأنه لا يمكن التوصل إلى حل ممكن بينما يحتل نظام الفصل العنصري الاستعماري الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل غير قانوني.

الانطلاق من استنتاجات هذا التقرير، لم يعد الضغط على إسرائيل والامتناع عن دعمها وسياساتها مجرد مطلب أخلاقي، بل واجب قانوني وفق القانون الدولي. يجب أن يكون هذا هو أساس المناصرة، وكذلك التقاضي من أجل العدالة في فلسطين.

كما أوصى التقرير، يجب على المجتمع الدولي الانخراط بشكل إيجابي في حقبة ما بعد أوسلو، واتباع نهج قائم على الحقوق هذه المرة، من خلال الاعتراف بعدم التناسق الشديد في القوة وقدرات الطرفين على تحقيق غاياتهما.

تحتاج الأمم المتحدة ومؤسساتها، ولا سيما الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى تشكيل لجان ومجموعات عمل من أجل مساءلة الشركات والأفراد المتواطئين في تلك الانتهاكات. وتشكيل مجموعات عمل تعمل على التوصيات المحددة في التقرير، بما في ذلك خطة تعويض اللاجئين

 

في الختام

بعد أكثر من قرن على الانتداب البريطاني، وأكثر من 7 عقود على التطهير العرقي عام 1948، وحوالي 55 عامًا على احتلال الضفة الغربية وغزة، و 42 عامًا على الضم الرسمي غير القانوني للقدس الشرقية، يجد الفلسطينيون أنفسهم باعتبارهم -بالنسبة للعالم- “مشكلة” يجب معالجتها أو ترضيتها في أفضل الأحوال. حتى هذا اليوم، لم يتم إجراء استفتاء واحد لاستكشاف موقف الفلسطينيين فيما يتعلق بحقهم في تقرير المصير.

يستمر الخطاب القانوني الدولي في التطور، من تنظيم مسؤولية دولة الاحتلال إلى إعلانه احتلالًا غير شرعي، إلى تسميته فصلا عنصريا، وإعادة وصفه بأنه شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني. لا شك أن هذه علامات جيدة على أن العالم قد سئم من نظام الفصل العنصري الاستعماري الإسرائيلي، ولكن ما قد يثير القلق هو أن هذه الألقاب لم تترجم بعد إلى أفعال. في النهاية، الأفعال هي التي تقلل معاناة الناس وتساعدهم في الحصول على حقوقهم. وما يثير القلق أيضًا أن هذه التوصيفات لم يتم تبنيها بعد من قبل الجهات الفاعلة الرئيسية، بما في ذلك الرباعية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

 

لقراءة المقال من مصدره الرئيسي

انقر/ي هنا

 

 

شارك عبر شبكات التواصل :

اخر الأخبار