مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان

Organization for Human Rights Meezaan

الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا (3).. الأبارتهايد كمفهوم في الحالة الفلسطينية والجنوب أفريقية

مقالات قانونية

الأبارتهايد كمفهوم في الحالة الفلسطينية والجنوب أفريقية

 

ساهر غزاوي

في سياق الحديث عن الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا الذي تعود فكرته لعام 1913، كما بيّنا سابقًا، من المهم التوقف في هذه المقالة عند هذا المفهوم لما له من إسقاطات على الحالة الفلسطينية. فقد ساد مفهوم الأبارتهايد أدبيات الحياة السياسية في جنوب أفريقيا بين 1948 و1991، وحكمت من خلاله الأقلية البيضاء -المنحدرة من أصول أوروبية والتي تمثل ما بين 15 و20% فقط من السكان- الأغلبية السوداء ذات الأصول الأفريقية والهندية وفق منهج إقصائي يُحافظ على المصالح والبنيات التجارية والاقتصادية التي أقامها البيض في ثلاثة قرون من الاستعمار.

الأبارتهايد (Apartheid ) كلمة مأخوذة من لغة “الأفريكانز”- لغة المستعمرين البيض الذين استوطنوا جنوب أفريقيا- وتعني (وضعه جانبا، أو نبذه) مع ما يحمله ذلك من معاني النبذ والتهميش والإلغاء وحتى الاحتقار، أما هذا المفهوم كتجربة في السياق التاريخي، فإنه يُبين الخلفية الأيدلوجية للعنصرية الغربية الأوربية والأمريكية في علاقتهما الاستعمارية مع البلدان المُسْتَعْمَرة، حيث أصبح الأبارتهايد أداة سياسية لإدارة المستعمرات بصورة صارخة، خاصّة في جنوب أفريقيا وفي المنطقة العربية الإسلامية عبر الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

في حال ألقينا نظرة سريعة على مفهوم الأبارتهايد عند فلاسفة الحداثة الأوربيين، سنجد على سبيل المثال لا الحصر، أن الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط لم يبخل بنظرياته السياسية الفلسفية على الثقافة العنصرية الغربية بشيء، بل هو واحد من بين آخرين دعوا إلى تصنيف البشر طبقًا لمعايير عرقية- أي تصور هرمي للإنسان- حيث اعتبر البيض الأوربيين أكثر ذكاءً وقدرة على بناء الحضارات ويقول: “الإنسانية في كمالها الأكبر هي الجنس الأبيض، والسود أقل درجة”، أما الفيلسوف الألماني جورج هيجل فيزعم بحسب نظريته الفلسفية أن “العبودية هي خاصيّة أفريقية”!! وهنا يستحضرني موقف الإسلام الداعي إلى نبذ كافة المظاهر المؤدية للتمييز العنصري بين البشر والتعامل معهم نسبة لأصلهم أو عنصرهم أو لونهم، أو جهتهم.. فقد قال تعالى في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ومما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب). فشتان بين هذا الموقف وبين نظريات وممارسات العقل العنصري.

في العودة إلى الحالة الفلسطينية، فإن الأبارتهايد الإسرائيلي، يُعدُّ الركن الأساسي النظري في الجانب الأيديولوجي/الفكري للحركة الصهيونية، والذي يرتكز على مقولة إنَّ اليهود هم قوم مميزون “شعب الله المختار”، كذلك فإن الأبارتهايد من الناحية العملية والنظرية يُشكل الطابع اليهودي لهذه الدولة التي ينبغي على السكان اليهود فيها أن يكونوا وأن يشكلوا أغلبية سكانية، لها السيطرة السياسية والجغرافية والعسكرية المطلقة في بقعة الأرض التي اختارها الله لهم موقعًا لدولتهم اليهودية.

لذا، فإن النظرة الصهيونية تجاه فلسطين لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني ولا تراهم حتى، إنما يظهر عمق عنصرية وعدوانية الحركة الصهيونية، وسعيها إلى الاستيلاء على كامل أرض فلسطين، وإجلاء الشعب الفلسطيني عنها لتحل محله جماعات مستوطنيها. وبناء على هذه العقيدة الاستعلائية، بنى المشروع الصهيوني وما زال يبني سياساته تجاه الشعب الفلسطيني، حتى لو تطلب ذلك اقتراف مذابح جماعية وعمليات تهجير، كما حصل إبان نكبة عام 1948 وما بعدها، وعمليات إبعاد وهدم بيوت، ومصادرة أراض واستيطان، وغيرها من الممارسات الاحتلالية التي لم تنتهِ ولن تنهي إلا بانتهاء الاحتلال وأدواته الاستعمارية.

أمَّا الأبارتهايد في الجانب القانون الدولي، فإن المجتمع الدولي يعتبر الأبارتهايد جريمة يمكن أن ترتكبها أي دولة وغير مقتصرة على جنوب أفريقيا، وبالتالي فإن دور المجتمع الدولي في حال وجدت دولة ترتكب هذه الجريمة أن يتخذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية والاقتصادية مثل فرض العقوبات والمقاطعة الشاملة ومحاكمة الجناة، حتى ينتهي ارتكاب الجريمة. ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، صدرت عدة مواثيق دولية هامة (مثل ميثاق روما، والميثاق الدولي لإزالة جميع أنواع التميز العنصري، وثيقة ديربان…) وهذه المواثيق تعتبر الأبارتهايد جريمة مثل الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والعبودية… الخ، وهي جرائم محظورة دوليًا، ومن المفترض أن هذه الاتفاقيات تجرّم المنظمات والمؤسسات والأشخاص الذين يرتكبون جريمة الفصل العنصري.

ففي العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1963 اعتمدت الأمم المتحدة الإعلان العالمي للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري (ميثاق الأبارتهايد). وفي العام 1966 أعلنت الجمعية العامة عن يوم 21 آذار/ مارس اليوم العالمي لمكافحة العنصرية، وهو اليوم الذي يصادف ذكرى مذبحة “شاربفيل”، التي ذهب ضحيتها 69 شخصًا كانوا خارجين في مظاهرة سلمية ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

أمَّا في الحالة الفلسطينية، فإن العديد من أشكال وعناصر الأبارتهايد في سياسات والممارسات الإسرائيلية، ليس على مستوى الشارع وممارسات الجيش وحسب، بل وفي القوانين والسياسات الرسمية. وعلى مدى عقود طويلة تُوَجَه انتقادات للمجتمع الدولي الذي يسمح لإسرائيل بإرساء نظام سياسي وصفه بأنه “فصل عنصري في فلسطين”، هذا التوجه الذي قوبل بتحد إسرائيلي لكافة القرارات التي تدين إسرائيل باستخدامها أداة الأبارتهايد كسياسية لإدارة المستعمرة (فلسطين) التي تديرها بدعم كامل من الأيدلوجية العنصرية الغربية الأوربية والأمريكية، مع أهمية الإشارة هنا إلى تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) الذي وصف إسرائيل بدولة أبارتهايد ونظام هيمنة قاسٍ وجريمة ضد الإنسانية والذي يدعو لمساءلة إسرائيل على ارتكاب جريمة الأبارتهايد (الفصل العنصري) ضد الفلسطينيين.

 

إقرأ المزيد-

شارك عبر شبكات التواصل :

اخر الأخبار