لقد برزت بشكل واضح من قبل وأصبحت أوضح اليوم سمات هذه المرحلة الصعبة للغاية التي يعيشها مجتمعنا العربي في الداخل، فقد حددت ملامح هذه المرحلة تعامل الدولة بسياسة التطرف والتمييز العنصري مع أحداث “هبّة الكرامة” عام 2021 وتداعياتها على مجتمعنا والتي بينت لنا شكل التعامل المستقبلي معنا في أوقات الأحداث والأزمات.
إن التداعيات الأولية لهذه الحرب قاسية جدًا على مجتمعنا العربي الذي يتواجد تحت مطرقة رُزم من القوانين وقرارات المحاكم في ظل حالة الحرب والطوارئ التي أعلنتها إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، ما معناه تعطيل القوانين التي تعطي نوعًا من الديمقراطية “المنقوصة” وإلغاء كامل لمساحة التعبير عن الرأي التي كانت بالأصل مساحة ضيقة جدًا في الأوقات العادية، فكيف يكون عليه الأمر حالة الحرب التي تعني عمليًا إعلان حالة الطوارئ وتوظيف القوانين الانتدابية وقانون مكافحة الإرهاب، وهي حالة تخول الحكومة بالقيام بأعمال أو فرض سياسات لا يُسمح لها عادة القيام بها. وهو ما يضع أي تعبير عن الرأي وأي حراك تضامني للمجتمع العربي بالبعد المدني والإنساني للذي يحدث للأبرياء بغزة في “دائرة دعم وتماهي مع الإرهاب”، من وجهة النظر الإسرائيلية.
ومؤخرًا، تم سنّ قانون يحظر على الأشخاص “استهلاك محتوى إرهابي”، وبحسبه فإن ما يصفها بـالمنظمات الإرهابية المُدرجة في نص القانون هي “حماس” و”داعش”، بمعنى من يستهلك الأخبار المتعلقة بالتنظيمات المذكورة ويتابع فيديوهات فيها تحريض للقتل أو تماهي بشكل ممنهج يكون عرضة للاعتقال والمسائلة. ليس هم فقط يريدون منعنا من الكتابة والنشر والتعبير عن الرأي، بل يريدون تحديد لنا كيف نفكر وبما نفكر وبما لا نفكر به، وهذا ما يؤدي إلى ضغوطات نفسية كبيرة على الناس الذي صار يصل بهم الأمر إلى سؤال ما هو المحتوى المسموح قراءته ومشاهدته وما هو الممنوع وكأننا في صراع داخلي يعطينا شعور أننا تحت المراقبة 7/24!! وهذا تعدٍ صارخ وتجاوز لخطوط الحمراء ومؤشر للانزلاق السريع نحو الهاوية ونحو المزيد من الكبت ومحاولات محو ذاكرتنا الجمعية وسلخنا من هويتنا الوطنية والقومية والدينية وعزلنا عن هموم وقضايا شعبنا الفلسطيني بعامة.
منذ السابع من أكتوبر ولغاية اليوم ويتعرض أبناء مجتمعنا العربي في الداخل لفرض إجراءات أمنية عقابية مشددة عليهم وتضييقات واسعة وممارسات وسياسات وسلوكيات سلطوية تجاههم بُغية منعهم من إسماع صرخة أو التظاهر والاحتجاج ضد الحرب أو التضامن الإنساني مع السكان المدنيين في قطاع غزة، بل يتم منع إقامة نشاط وقفة صامتة لإنهاء الحرب ورفض قتل المدنيين. إلى جانب الملاحقات الأمنية والعقابية لطلبة الجامعات والكليات المختلفة والموظفين بالقطاع العام والخاص والتضييق على بعض الصحافيين العرب الذي وصل أحيانًا إلى حد التهجم عليهم، وحملات اعتقالات واستدعاءات واسعة للتحقيق معظمها على خلفية منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، فُسّرت على غير معناها الحقيقي. مع التنويه هنا أن التعبير عن الرأي ليس بالضرورة أن يكون من وجهة النظر الإسرائيلية وما تريد أن تسمعه فقط، وإنما يكون التعبير عن الرأي ضمن القانون، ولكن حتى هذا القانون أصبح فضفاضًا وأخذ بداخله أمورًا من المفترض أن تكون خارجه.
وأيضًا ما تعرض له أبناء مجتمعنا من تهديدات يومية سواء من المجموعات اليهودية المتطرفة أو من السياسة الإسرائيلية العليا ومحطات الإعلام التي تتمادى بالتحريض المنفلت على الوجود العربي والتلويح بسحب الجنسية من العرب الذين يدعمون ما تعتبره إسرائيل “دعمًا للإرهاب”. وهنا تبرز تصريحات مفتش العام للشرطة يعقوب شبتاي الذي شدّد على عدم السماح مطلقًا بالتظاهر في المجتمع العربي، مع أن التظاهر قد يكون له بُعد إنساني ومن أجل رفع الصوت عاليًا للحفاظ على أرواح المدنيين الأطفال والنساء والكبار، مع التأكيد أن هذه التصريحات قد تُرجمت على أرض الواقع من خلال قمع عنيف للوقفات والمسيرات الاحتجاجية المنددة بالعدوان على غزة وفضها بطرق غير قانونية والاعتداء المفرط على المتظاهرين بينهم نساء وأطفال بقنابل الصوت والدخان المسيل للدموع .
وعلى نحو غير ما هو متوقع، هو موقف نقابة المحامين في إسرائيل المتقاعس ضد حملات التحريض والتهديد والشكاوى الباطلة بحق المحامين العرب، علمًا أن من أهم القضايا التي تعالجها النقابة هي الدفاع عن المحامين حال تعرضهم إلى مُساءلة قانونية أو مشكلة تحتاج إلى تمثيل دفاعي عنهم. لا بل إن نقابة المحامين قد ساهمت في زيادة وتشجيع التحريض ضد المحامين العرب وعلى تقديم شكاوى باطلة من قبل زملائهم بالمهنة بدون أي مسوغ قانوني لذلك وبناء على مواقف وآراء شرعية وشخصية قد أبداها بعض المحامين العرب، فما كـان من النقابة إلا أن زادت الطين بلّة عندما نشرت إعلانًا مفاده أن النقابة تدرس تعديل اللوائح والأنظمة للسماح لها بالفصل الفوري لأي محام يقوم بنشر أي “تأييد أو مديح أو تحريض على أعمال إرهابية وجرائم أخرى ينص عليها قانون مكافحة الإرهاب”، وكان من الأجدر ألا تقوم النقابة بنشر إعلان كهذا في ظل هذه الفترة الحرجة بالتحديد.
إن أكثر ما يثير الاستغراب هو أن المحامين الذين من أبرز مهامهم وواجباتهم ومسؤولياتهم الدفاع عن الحريات والحقوق، يجدون أنفسهم في مكان لا يستطيعون فيه التعبير عن الرأي، بل يحرمون من هذا الحق، وبالتالي فإن موقف النقابة السلبي ضد المحامين العرب والهجوم غير المبرر عليهم وضعهم أمام لجان الطاعة التأديبية في نقابة المحامين والتهديد بالإيقاف الفوري عن مزاولة المهنة للمحامين المشتبهين بـ”دعم للإرهاب”، وبالتالي فهؤلاء المحامون أصبح عليهم من الصعب الدفاع عن أنفسهم فكيف سيكون الأمر بالدفاع عن غيرهم!! بل إن أخطر ما في الأمر أن موقف النقابة السلبي وضع المحامين العرب أمام هجوم عنصري من قِبل جهات يمينة متطرفة التي بدورها عملت على التشهير بهم ونشرت أسماءهم وصورهم وعناوينهم ليكونوا عُرضة لخطر التحريض الشعبوي العلني عليهم، بهدف الضغط والتأثير عليهم للتنازل عن القيام بواجبهم المهني دفاعًا عن الحقوق والحريات، بمعنى أنهم يطالبون المحامون العرب مخالفة وخيانة قواعد مهنة المحاماة وآدابها والابتعاد عن جوهر رسالتها الجليلة.
هذه الممارسات العقابية التي تهدف إلى زرع الخوف وردع المحامين العرب وغيرهم من التعبير عن رفضهم للعدوان الإسرائيلي على غزة، ولّد شعور لدى شرائح المجتمع العربي عامّة والمحامين العرب خاصّة أنهم في دائرة المسائلة القانونية، بحيث أنهم أصبحوا معرضون للملاحقة والرقابة الذاتية وقمع لحرية التعبير وحتى لحرية المشاعر الإنسانية، فمنذ الأيام الأولى من الحرب يسود شعور لدى الجميع بأنه لا أحد يستطيع التعبير عن المآسي الإنسانية التي يتعرض لها السكان المدنيين، فضلًا عن التعامل الفظ والمهين مع المحامين العرب، إن كان ذلك أثناء تمثيلهم القضائي للمعتقلين في المحاكم أو كانوا من المحامين الذين يَمْثِلون أمام لجان الطاعة التأديبية في نقابة المحامين في إسرائيل، فجميعهم وضعوا في سلة واحدة ويُنظر إليهم من نفس الزاوية ولا يوجد فصل بين من يؤدي مهامه وواجباته المهنية وبين ومن له آراء لا تروق للآخرين، وهذا ما كان ملموسًا بشكل كبير على أرض الواقع، حتى أن هناك من المحامين من تعرض للاعتقال وخضع للتحقيق ومنهم من قدمت ضدهم لوائح اتهام.
ما تقدم ذكره، يعكس الصورة القاتمة السوداوية التي نعيشها في ظل هذه الحرب وتداعياتها، ما يستدعي منا دق ناقوس الخطر وطرح التساؤلات عن أهمية الحقوق والحريات التي نريدها عند الحاجة وليس في الأوقات العادية فقط، بالرغم من ضيق مساحتها، ولقد كان بارزًا عنوان هذه المرحلة التي نعيشها اليوم من واقع صعب وأوضاع في غاية الخطورة على كافة الصُعد والمستويات، ولطالما حذرنا، كما حذر آخرون، في مناسبات عدة، أننا كمجتمع وكأقلية أصلانية في البلاد نتعرض لمخططات حكومية منظمة على المديين القريب والبعيد ومستهدفون في جميع الأوقات وليس فقط في أوقات الحرب.