لا شكَ أنّ السلطات الإسرائيلية تملك سجلًا حافلًا في استخدام حجم القوة المفرطة وغير العادلة ضد العرب الفلسطينيين في الداخل، غير أن أحداث وتداعيات “هبة الكرامة” التي اندلعت في أيار/ مايو 2021 والتي لا زلنا نعيش تداعياتها إلى الآن، كشفت عن ازدياد حجم الحقد والسادية في عقيدة الشرطة الإسرائيلية وأذرع الأجهزة الأمنية المختلفة على أبناء الداخل الفلسطيني، معتمدة بذلك على مرتكزات العقيدة الأمنية التي تتبنى مبدأ سياسة الردع واستباق التطورات بشقيه (“الردع بالمنع” و”الردع بالعقاب”) على المديين القريب والبعيد، ظنًا منها أن هذه السياسة هي الوحيدة التي تناسب فلسطينيي الداخل لمنعهم من الاحتجاج والتظاهر مستقبلًا.
يتمثل مبدأ “الردع بالمنع”، في سياق أحداث “هبّة الكرامة”، باستخدام الأجهزة الشرطية والأمنية الإسرائيلية أدوات فاشية لقمع المتظاهرين السلميين الذين حاولوا حماية أنفسهم من انفلات المستوطنين في البلدات العربية والمدن الساحلية (المختلطة)، كما أشار مراقب الدولة الإسرائيلي، متنياهو أنغلمان، في تقرير صدر عنه يوم 27/7/2022. القمع الفاشي هذا خلّف عددًا كبيرًا من المصابين والجرحى، بينهم إصابات خطيرة جرّاء الرصاص المطاطي والضرب بالهراوات وخاصة في منطقة الرأس والعيون، كما استشهد الطالب محمد كيوان في مدينة أم الفحم برصاص الشرطة.
كذلك، يتمثل في تنفيذ الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام (الشاباك) حملة اعتقالات ضد مئات الشبّان من المجتمع العربي، دون أن يسلم المعتقلون من اعتداءات وحشية تركت لدى بعضهم إعاقات دائمة، وهناك العديد من الشهادات المروعة عن تلك الانتهاكات اللاإنسانية بحق المعتقلين الشباب والقاصرين الذين تعرضوا أثناء الاعتقال والتوقيف لأساليب غير قانونية وتعرضوا إلى التعذيب والتنكيل بحقهم وانتهاك حقوقهم الأساسية، وأولها منعهم من اللقاء بمحامين.
بموازاةِ ذلك، تمثل مبدأ “الردع بالعقاب” في الجهاز القضائي الذي هو جزء من منظومة قضائية وإجراءات أمنية وقرارات سياسية برزت بشكل واضح بالتصعيد البالغ ضد معتقلي “هبّة الكرامة” بفرض الأحكام العالية الجائرة عليهم، التي تصل بعضها إلى عشرة أعوام، بينما في الوضع الطبيعي كانت الأحكام لا تتجاوز الخمس سنوات في الحدّ الأقصى، إلى جانب التشديد في صياغة لوائح الاتهام وإدراج بنود خطيرة من قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016، وذلك بتوجيهات واضحة وصريحة من قبل النائب العام والمستشار القضائي للحكومة. بل إن تشدد النيابة العامة في إدارتها للملفات كان بارزًا جدًا. هذه السياسات والأحكام العالية تعتبر سابقة خطيرة، ما يشير بوضوح إلى أن المنظومة القضائية في إسرائيل تهرول بسرعة إلى المزيد من سياسة التطرف والتمييز العنصري التي برزت سماتها بشكل واضح وكبير من خلال التعامل بازدواجية المعايير والأحكام مع الملفات ولوائح الاتهام بُبعد قومي بين العرب واليهود.
إن أخطر ما في “هبّة الكرامة”، وأكثر ما يميزها عن أحداث سابقة، هو تجنيد جيش من المستوطنين المُدججين بالسلاح تم دعمهم من قبل الأجهزة الأمنية من أجل بث الرعب والهلع في صفوف أهالي الداخل الفلسطيني والاعتداء على ممتلكاتهم الخاصة. وقد جاء هذا التجنيد بناء على دعوات رسمية من المستوى السياسي والديني لاقت رواجًا كبيرًا في الأوساط الإعلامية الإسرائيلية، بل إن الشرطة كانت على علم مُسبق بنية المئات من المستوطنين المسلحين، بينهم جنود احتياط، للقدوم من البُئَر الاستيطانية في الضفة الغربية إلى مدينة اللد من أجل “حماية ممتلكات اليهود في المدينة”، وهذا ما أدّى إلى استشهاد الشاب موسى حسونة في مدينة اللد برصاص مستوطن إثر محاولات المستوطنين الاعتداء واقتحام المنازل والأحياء العربية هناك والاعتداء على الممتلكات الخاصة. ولم يكن مثل هذا الأمر في السابق، ولا بمثل هذه الدرجة من الحدّة والتطرف.
عمليًا، أكثر ما لمسناه في أروقة المحاكم الإسرائيلية عبر متابعتنا للعديد من ملفات معتقلي “هبّة الكرامة”، هو استعمال مصطلحات “نحن” و “هم” في التحقيق والإجراءات القانونية. أي، المصطلحات التي ترسخ العنصرية والنظرة الدونية للعرب بوصفهم بـ “هم”. وقد لاقى هذا التقسيم قبولًا ورواجًا إعلاميًا وسياسيًا واضحًا، إذ أن خلفيته هي نزعة عنصرية كانت ترمي إلى ترسيخ “قانون القومية” وتطبيقه على أرض الواقع ولتؤكد أن المواطن العربي منزوع الحقوق أصلًا ولا يمكن أن يكون متساوي الحقوق مع اليهودي.
كذلك، يبرز في “هبّة الكرامة” دخول “الشاباك” بقوة في هذه الأحداث، عبر التحقيق بأسلوبه المعروف الذي يعتمد على التهديد والترويع والتخويف والتنكيل، من منطلق التعامل مع هذه الأحداث على أنها تشكل خطرًا أمنيًا قويًا، وهو ما أدى في حالات معينة إلى اعتراف بعض المعتقلين بمخالفات لم يرتكبوها أصلاً. ومن جانب آخر، اعتقال قيادات من تيارات وحركات سياسية في المجتمع وتقديم لوائح اتهام بحقهم وتحميلهم مسؤولية التحريض بـ “تأجيج نار الانتفاضة”، مثل الشيخ كمال خطيب ومحمد كناعنه والشيخ يوسف الباز. غير أن هذه القيادات في حقيقة الأمر كانت تصرخ في وجه الاعتداءات ضد المواطنين العرب. هذه الاعتقالات والملاحقات تشير بوضوح إلى الاستهداف السياسي لقيادات الداخل الفلسطيني من حيث التمييز العنصري والانتقائي في التعاطي مع مثل هذه الملفات. ولا أدل على ذلك من أن النيابة العامة الإسرائيلية لا تزال تُصر على رفضها الإفصاح عن عدد لوائح الاتهام بالتحريض التي وجهت لشخصيات يهودية سياسية أو لموانين يهود بشكل عام.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ أداءنا ودورنا كمجتمع عامة كان ضعيفًا جدًا، بحيث لم يرتق إلى مستوى تحديات وتداعيات الحدث، غير أن ذلك لا ينفي بتاتًا الدور الفاعل لبعض الحراكات أثناء “هبّة الكرامة”، لكن ما بعدها حدث انقطاع تام في التواصل مع المتضررين والمعتقلين وعائلاتهم. هذا الأداء الضعيف يتحمل مسؤوليته جميع الأحزاب والتيارات السياسية التي ينعكس ضعفها، بطبيعة الحال، على لجنة المتابعة العليا مباشرة، بحكم أنها من مركباتها الأساسية، وخاصة الأحزاب الممثلة في الكنيست والتي لم تخصص ولو القليل من ميزانياتها الضخمة لإنشاء صندوق طوارئ داعم لقضية المعتقلين، وإلى جانبهم أيضًا قيادات ومؤسسات المجتمع العربي، فضلًا عن أنّ المؤسسات الحقوقية أصبحت مُكبلة اليدين في الدفاع عن المعتقلين، لأسباب تتعلق بالميزانيات، بحيث لا تستطيع تحمل كافة الأعباء المادية لمتابعة الملفات الجنائية الأساسية. ومن جهة أخرى، كان لعائلات المعتقلين دور في ذلك، إذ أنها هي التي تختار توكيل محاميين مختصين بالملفات الجنائية (ومنهم محامون يهود يطلبون مبالغ طائلة)، وبذلك اقتصر دور وعمل المؤسسات الحقوقية على مراحل الاعتقال الأولى، إلا أنّ الدور الشعبي يبقى هو الضامن الأقوى للوقوف مع العائلات ودعمها ماديًا ومعنويًا.
في النهاية، نحن كمجتمع وكأقلية أصلانية في البلاد نتعرض لمخططات حكومية منظمة على المديين القريب والبعيد ومستَهدفون في مثل هذه الأحداث، ولذلك يتوجب على لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية إقامة لجنة طوارئ والاستعانة بمؤسسات المجتمع المدني المهنية لوضع الخطط والاستراتيجيات المدروسة والآليات والطرق الوقائية والعلاجية لتكون على مستوى تحديات المرحلة وتطوراتها، بحيث لا يبقى الأداء متركزًا على رد الفعل الآني فقط، وإلا فإننا أمام أي سيناريو مشابه لأحداث “هبة الكرامة” وتداعياتها سيبقى دورنا وأداؤنا ضعيفين، الأمر الذي سيعود بالضرر علينا كمجتمع خاصة وأنّ القادم سيكون أصعب على المجتمع العربي في حال تم إقرار إقامة ميلشيات “الحرس القومي” التي يقف على رأسها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ما يؤكد أن هذه الميليشيات ستكون خاصة به، ليسلطها على المواطنين العرب في البلدات العربية في حال اندلاع أحداث مشابهة لهبّة الكرامة تحت سيناريوهات الطوارئ المختلفة، والجريمة القومية، ومكافحة الإرهاب…الخ.
للتنويه: نشر هذا المقال في المنصة الإعلامية (فارءه معاي)