ساهر غزاوي
افتتح الكنيست الإسرائيلي في الأسبوع الأخير من تشرين الأول 2024، دورته الشتوية التي ستستمر حتى مطلع نيسان المقبل. وتتصدر أجندته موجة جديدة من التشريعات القمعية والعنصرية التي تستهدف الفلسطينيين بشكل خاص. تهدف هذه القوانين، في ظل أجواء الحرب، إلى تجريم الفلسطينيين وقطع صلتهم بقضيتهم العادلة التي لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد، بغض النظر عن عرقه أو لسانه، سواء كان عربيًا أم أعجميًا، مغربيًا أم مشرقيًا، شاميًا أم خليجيًا. فالقضية الفلسطينية ليست مجرد قضية شعب، بل هي قضية أمة بأسرها، وهي قضية كل عربي وكل مسلم أينما كان.
فلسطين، شعبًا ووطنا، تمتد حضارتها عبر التاريخ، وتشكل قضية عادلة تتوافق مع الشرائع السماوية والقوانين الدولية التي تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها وحماية أراضيها. ورغم الإجماع الدولي على عدالة هذه القضية، تواصل إسرائيل سياساتها العنصرية ضد الفلسطينيين، خصوصًا في الداخل، من خلال فرض قيود على حقوقهم المدنية والسياسية وملاحقتهم بسبب تعبيرهم عن هويتهم الوطنية ورفضهم للسياسات الاستعمارية. تستهدف هذه السياسات تفريغ الفلسطينيين من أرضهم وتاريخهم، ولكنهم يواصلون الصمود والنضال لاستعادة حقوقهم، مُؤمنين بعدالة قضيتهم رغم كافة التحديات.
في جلسته الافتتاحية، أقرّ الكنيست الإسرائيلي بشكل نهائي حظر نشاط وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى قانون يحظر التواصل معها، وذلك بتأييد 92 عضو كنيست، أي أغلبية عظمى. كما صادق الكنيست على قانون يسمح بفصل معلمين عرب عبروا عن مواقف سياسية، إذ يمنح وزير التربية والتعليم صلاحية منع تحويل ميزانيات إلى مدارس، كما يسمح بفصل معلمين بتهمة “التماهي مع منظمة إرهابية” دون سابق إنذار.
هذه التشريعات العنصرية تؤكد من جديد دور الكنيست كأحد الأعمدة الرئيسية في المشروع الصهيوني، وتأتي في إطار قوانين تمييزية واحتلالية أُقرت منذ تأسيس الكيان عام 1948، في محاولة لتجريم الفلسطينيين وسلخهم عن هويتهم الوطنية. كما تهدف هذه القوانين إلى إبعادهم عن قضاياهم العادلة، وتعميق عزلة المجتمع الفلسطيني في الداخل.
على الرغم من الهدوء النسبي الذي أبداه المجتمع الفلسطيني في الداخل طوال عام من الحرب، إلا أن هذا المجتمع لم يسلم من سياسة الترهيب والملاحقات الأمنية. لا يزال الفلسطينيون في الداخل يواجهون محاولات قمعية للحد من حقهم في التعبير عن التضامن مع أهلهم في غزة، أو حتى لإدانة الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
لقد طالت سياسة الترهيب العديد من الطلاب والموظفين الفلسطينيين، وتمَّ فصل بعضهم من الدراسة والعمل. كما قدم بعض أعضاء الكنيست مشاريع قوانين تستهدف الحركات الطلابية، وتستبعد الطلاب من مقاعد الدراسة بتهمة “التماهي مع الإرهاب” أو مع الهوية الفلسطينية.
هذه القوانين تأتي في إطار سعي السلطات الإسرائيلية للحد من حرية التعبير في جهاز التربية والتعليم، وتحقيق سيطرة كاملة عليه. يعيدنا هذا إلى ممارسات فترة الحكم العسكري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عندما كانت السلطات الإسرائيلية تفرض تعيين معلمين ومديرين عرب موالين لها، وتجبر الطلاب على الاحتفال بذكرى “استقلال الدولة”.
وفي هذا السياق، يذكرنا ما كتبه هليل كوهين في كتابه “العرب الصالحون” تحت عنوان “أسرار من غرف المعلمين”، حيث يشير إلى اجتماع عام عقد في شباط 1961 لمناقشة “الميول القومية عند العرب”. وفيه، أوعز المسؤولون إلى ضباط الشرطة بأن يراقبوا بدقة أي تصريحات قومية من العرب ويتخذوا ضدهم إجراءات رادعة. كان الهدف آنذاك هو تنشئة جيل جديد من “العرب الإسرائيليين” المنفصلين عن ماضيهم الفلسطيني. ومع أن الحكم العسكري قد انتهى عام 1966، إلا أن سياساته لا تزال مستمرة، حيث لا يزال جهاز الأمن الإسرائيلي يتدخل في تعيين مديري المدارس العربية، ويعمل على إخضاع المعلمين الفلسطينيين ومنعهم من التعبير عن أي رأي نقدي.
لكن، كما فشلت محاولات قمع حرية التعبير خلال فترة الحكم العسكري، من المؤكد أن هذه القوانين الجديدة، التي تسعى إلى تجريم المعلمين والطلاب الفلسطينيين تحت ستار مكافحة “الإرهاب”، لن تنجح في كبح حرية التعبير في جهاز التعليم العربي. فالعديد من المعلمين والطلاب الفلسطينيين قد أثبتوا، في الماضي والحاضر، قدرتهم على مقاومة محاولات القمع والإبقاء على ارتباطهم العميق بقضيتهم الفلسطينية العادلة.